عزل ناظر الوقف بين النظام والفقه وآثاره المترتبة
بقلم: عبد الله بن خالد الزيد
تُعتبر الأوقاف ركيزة استراتيجية وداعمًا أساسيًا لتحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدام، ومن هذا المنطلق، أولت المملكة العربية السعودية اهتمامًا بالغًا بتطوير هذا القطاع، فأنشأت الهيئة العامة للأوقاف، وأصدرت مجموعة من الأنظمة واللوائح التنفيذية، بهدف تنظيم العمل الوقفي ورفع كفاءته، بما يضمن استدامته واستفادة الجهات المعنية من ريعه بأفضل صورة ممكنة.
ومن أبرز اللوائح التي أصدرتها الهيئة العامة للأوقاف وركّزت عليها، لائحة تنظيم أعمال النظارة، والتي وضعت ضوابط واضحة تضمن قيام الناظر بمهامه بكفاءة ونزاهة، كما شملت اللائحة أنظمة لمحاسبة المخالفات التي قد يرتكبها الناظر، والعقوبات المترتبة عليها، ومنها: عقوبة العزل من النظارة، وفي هذا المقال([1])، سنتناول الأحكام المتعلقة بهذه العقوبة من ثلاثة جوانب: المخالفات النظامية التي تستوجب العزل، والأسباب الفقهية المؤدية له، إضافةً إلى الآثار المترتبة على تنفيذ قرار العزل.
أولًا: المخالفات النظامية التي تستوجب عزل الناظر:
أشارت المادة (24) من لائحة تنظيم أعمال النظارة إلى أن الهيئة العامة للأوقاف تملك صلاحية عزل الناظر في حال ارتكابه مخالفات جسيمة، وذلك مع الأخذ في الاعتبار تكرار المخالفة وما يترتب عليها من آثار، والظروف المحيطة بها، كما أكدت المادة ضرورة الرجوع إلى جدول المخالفات والجزاءات الذي أصدرته الهيئة في شهر جمادى الآخرة لعام 1446هـ، الذي اشتمل على مجموعة من العقوبات، من أبرزها: عقوبة العزل، والتي تُطبّق عند ارتكاب مخالفات محددة، يبلغ عددها أربع عشرة مخالفة على النحو التالي:
- مخالفة شرط الواقف بالصرف لغير المستفيدين من عوائد الوقف.
- مخالفة شرط الواقف بالصرف على الموقوف عليهم بأقل مما ورد في وثيقة الوقف.
- مخالفة شرط الواقف في مصارف الوقف.
- ثبوت ارتكاب أي جريمة تتعلق بجمع التبرعات عبر الوقف.
- ثبوت ارتكاب أي جريمة منصوص عليها في أي نظام عبر الوقف.
- إجراء تصرفات صورية باسم الوقف بغرض التحايل على الأنظمة.
- مخالفة الأحكام والإجراءات المتعلقة بالتصرف في الأصول الموقوفة دون إذن الجهة المختصة وفي غير مصلحة الوقف.
- مخالفة الأحكام والإجراءات المتعلقة بالتصرف في الأصول الموقوفة دون إذن الجهة المختصة إذا كان محققًا لمصلحة الوقف.
- الامتناع عن صرف عوائد الوقف للمستحقين.
- امتناع الناظر عن فتح حساب مصرفي باسم الوقف دون مبرر مشروع.
- خلط أموال الوقف مع أموال أخرى دون مبرر مشروع.
- عدم استخدام الحسابات البنكية العائدة للوقف في تحويل مستحقات المستفيدين دون مبرر مشروع.
- الامتناع عن تمكين الهيئة من إجراء الفحص المكتبي والميداني للوقف دون مبرر مشروع.
- الامتناع عن تزويد الهيئة بالوثائق أو المستندات أو المعلومات اللازمة للقيام بأعمال الفحص دون مبرر مشروع.
وكل هذه المخالفات تُعدّ مبررًا كافيًا للنظر في عزل الناظر، من قبل الهيئة العامة للأوقاف، حفاظًا على أمانة الوقف وتحقيقًا لمقصده الشرعي.
وقد نصّ نظام الهيئة العامة للأوقاف على أن للهيئة صلاحية تحريك الدعوى القضائية لعزل الناظر عند الحاجة، استنادًا إلى دورها الرقابي والإشرافي على أعمال النظّار، ويشمل ذلك: استكمال الإجراءات النظامية، والتنسيق مع وزارة العدل لعزل الناظر، وتعيين بديل له، وبناءً عليه، فإن قرار العزل قد يصدر إما من المحكمة المختصة، إذا كان المدّعي له صفة في الدعوى، وكانت المخالفة تستوجب العزل، أو من الهيئة العامة للأوقاف، في حال رأت مبررًا كافيًا لاتخاذ هذا الإجراء.
ولرفع دعوى عزل الناظر أمام الجهة المختصة، من الضروري أولًا تحديد نوع ومكان الاختصاص القضائي، وبحسب المادة (33) من نظام المرافعات الشرعية، فإن الجهة المختصة بنظر دعاوى عزل النظار، وتعيين البدلاء عند الحاجة، هي: محكمة الأحوال الشخصية.
وتُرفع الدعوى في المحكمة التي يقع ضمن نطاقها مكان إقامة المدعى عليه، وإذا لم يكن له إقامة داخل المملكة، تُرفع الدعوى في المحكمة التي يقع ضمن نطاقها مكان إقامة المدعي، وإذا لم يكن لأي من الطرفين إقامة داخل المملكة، فيجوز للمدّعي رفع الدعوى في أي محكمة من محاكم مدن المملكة، وفي حال تعدد المدّعى عليهم، يُنظر لمكان إقامة الأكثرية، وإن تساووا فيحق للمدّعي اختيار المحكمة التي يقع ضمن نطاقها مكان إقامة أي منهم، وذلك وفقًا للمادة (36) من النظام.
كما أنه من المهم الإشارة إلى أن محاكم المملكة العربية السعودية لا تنظر في الدعاوى العينية المتعلقة بالعقارات خارج المملكة، ويشمل ذلك الأوقاف الواقعة خارجها، وفقًا لما ورد في المادتين (24) و(25) من نظام المرافعات الشرعية.
ثانيًا: الأسباب الفقهية الموجبة لعزل الناظر:
تُعدُّ نظارة الوقف منصبًا شرعيًا قبل أن تكون مهمة إدارية، ولذلك حظيت باهتمام كبير من الفقهاء؛ لما لها من أثر بالغ في حفظ حقوق الموقوف عليهم، وتحقيق مقاصد الواقفين، وبما أن العدل شرط أساسي في أداء هذه المهمة، فإن الفقهاء قد اتفقوا في المجمل على مشروعية عزل الناظر؛ متى ما وُجد سبب شرعي للعزل، مستندين في ذلك إلى حديث النبي ﷺ “لا ضرر ولا ضرار”، وعلى القواعد الفقهية المتعلقة بالمصلحة وسد الذرائع.
المخالفات المكتسبة التي تستوجب العزل:
ويقصد بها المخالفات التي تصدر من الناظر عن قصد وتعمد، وتتمثل فيما يلي:
- الكفر: فيشترط في الناظر الإسلام، إلا إن كان الوقف مخصّصًا لكفار واشترط الواقف النظر لكافر.
- الفسق: العدالة شرط أساسي في الناظر، إلا أن بعض الفقهاء أجازوا تولي الفاسق للنظارة في حالات معينة.
- الخيانة: يشترط في الناظر الأمانة، فإذا ثبتت عليه خيانة ظاهرة وجلية، وجب عزله.
- مخالفة شرط الواقف: يُلزم الناظر بالعمل وفق ما اشترطه الواقف، وإذا خالف هذا الشرط فإنه مستحق للعزل.
المخالفات غير المكتسبة التي توجب عزل الناظر:
وهي المخالفات التي تنشأ بغير قصد الناظر وتعمده، وقد اختلف الفقهاء في بعضها وفي تحديد القدر الذي يوجب العزل بها، وسنذكرها هاهنا باختصار:
- الضعف، ويُقصد به: ضعف قدرة الناظر على القيام بشؤون الوقف.
- العجز، ويُقصد به: عدم قدرة الناظر على إنجاز المهام المطلوبة.
- الجنون، ويُقصد به: اختلال العقل الذي يمنع جريان الأفعال والأقوال على نهج العقل إلا نادرًا.
ثالثاً: الآثار النظامية والشرعية المترتبة على عزل ناظر الوقف:
من المعروف أنَّ ناظر الوقف يحمل مسؤوليات كبيرة تشمل الإشراف، الإدارة، والتصرف في شؤون الوقف، بما يحقق مصلحة الموقوف عليهم، ويحفظ أصول الوقف، فإذا عُزل هذا الناظر، فلا بد من ناظر آخر يقوم بدوره، وإلا فإن مآل الوقف التوقف والتعطل، وفي هذا الجزء، سنتعرّف بإذن الله على:
- الآثار النظامية والشرعية التي تترتب على العزل.
- الإجراءات والآليات المتبعة في المملكة العربية السعودية بعد قرار العزل.
ومن الجيِّد قبل الدخول في ذلك أن نبيِّن صفة يد الناظر في توليه للوقف، حيث إن العلماء قد اتفقوا على أن يده في الوقف يد أمانة، فلا يُلزم الناظر بالتعويض عن الخسارة أو الضرر إلا في حالتين: إن تعدّى على الوقف، أو حصل منه تفريط في واجباته، وهذا يوضح أن مسؤولية الناظر ليست مجرد منصب، بل هي أمانة شرعية عظيمة.
الآثار النظامية لعزل الناظر:
عند صدور قرار عزل الناظر، فلا بد من وجود آثار نظامية محددة، تضمن استمرارية إدارة الوقف بشكل قانوني ومنظم، وقد ورد في لائحة تنظيم أعمال النظارة، بأنها ثلاثة آثار رئيسة، منها ما هو متعلق بالهيئة العامة للأوقاف، ومنها ما هو متعلق بالجهة المختصة، ومنها ما هو متعلق بالناظر المعزول، وهي كما جاءت في المادة (27) من اللائحة:
- إشعار الهيئة للجهة المختصة والناظر المعزول وكافة أصحاب المصلحة المتعاملين مع الوقف بقرار عزل الناظر.
- تتخذ الجهة المختصة الإجراءات الآتية مع إشعار الهيئة بذلك:
- أ- تعديل كافة الوثائق المتعلقة بالوقف وفقًا لقرار عزل الناظر.
- ب- إشعار البنك المركزي السعودي وهيئة السوق المالية؛ ليتم إلغاء تفويض تشغيل الحسابات البنكية والحسابات الاستثمارية العائدة للوقف عمن صدر في حقه قرار العزل.
- ت- تعيين ناظر بديل وفق أحكام إجراءات تعيين النظار الواردة في هذه اللائحة، بعد ترشيح الهيئة له واختياره من ضمن المقيدين في سجل النظار، وتوثيق تعيينه.
- إلزام الناظر المعزول بالآتي:
- أ- الإفصاح للهيئة عن كافة أصول الوقف والمستندات والبيانات والمعلومات المتعلقة بالوقف.
- ب- تسليم جميع ما يتعلق بالوقف للناظر البديل وإشعار الهيئة بذلك.
- ت- قيام الناظر البديل بتحديث شهادة تسجيل الوقف.
وقد منح المنظم الهيئة مرونة خاصة، حيث يمكنها إعفاء بعض النظار من تطبيق أحكام معينة من اللائحة، إذا تطلبت طبيعة الوقف أو حجمه ذلك، بما يتناسب مع مصلحة الوقف.
الآثار الشرعية لعزل الناظر:
قرار عزل الناظر لا يمرّ بدون تبعات شرعية، بل يترتب عليه مجموعة من الأحكام والتساؤلات التي تناولها الفقهاء بعناية، ومن ذلك:
- حق استخلاف النظارة بعد العزل: من يملك حق تعيين ناظر جديد إذا تم عزل الناظر السابق لأي سبب؟
- اتفق الفقهاء رحمهم الله بأن الواقف إذا عيّن نفسه أو شخصًا محددًا بعد وفاة أو عزل الناظر الأول فإنه يُعمل بشرطه.
- واختلفوا فيما إذا لم يشترط أحدًا في وثيقة الوقف، ولعل الواقف نفسه هو أولى من يختار ناظرًا جديدًا، لأنه كما يملك حق التعيين في البداية، فمن الطبيعي أن يُمنح هذا الحق عند الحاجة لتغيير الناظر، وإلا فينتقل الحق إلى الحاكم الشرعي، ليُعيّن من يراه كفؤًا لمصلحة الإشراف والإدارة على الوقف.
- إعادة الناظر المعزول: إذا أصدر قاض قرارًا بعزل الناظر، هل يحق لقاض آخر إلغاء الحكم وإعادة الناظر لمنصبه؟
- أجمع الفقهاء على قاعدة مهمة هي: الاجتهاد لا يُنقض بمثله، يعني: لا يجوز لقاض أن ينقض حكم قاض آخر، ما لم يظهر موجب جديد، أو خطأ شرعي بيّن، عليه، فلا يُلغى حكم القاضي الأول إلا إذا: خالف نصًا شرعيًا صريحًا، أو خالف إجماع العلماء، أما إذا كان مجرد اختلاف في الاجتهاد أو القياس، فحكم القاضي الأول يبقى نافذًا.
ختامًا بعد هذا العرض للمخالفات النظامية والشرعية التي توجب عزل ناظر الوقف، وما يترتب على ذلك من آثار جوهرية، يتبين لنا أن كلًّا من النظام والفقه يسيران في اتجاه واحد لتحقيق غاية عليا، وهي: صيانة الوقف من الخلل الإداري أو الشرعي، وضمان استمرار ريعه في خدمة مقاصده النبيلة.
فقد أسهم التنظيم الحديث للأوقاف في المملكة العربية السعودية، في ترسيخ هذا الهدف، من خلال العناية بضبط أعمال النظار، ورسم حدود صلاحياتهم، ووضع الآليات والجزاءات اللازمة عند الإخلال، بما يحقق الشفافية، ويمنع أي تلاعب أو تقصير قد يُلحق الضرر بمصالح الوقف، أو ينحرف عن شروط الواقفين.
أما من الناحية الفقهية، فقد بيّن العلماء أن عزل الناظر ليس موقفًا شخصيًا أو تقليلًا من مكانته، بل هو إجراء تحفظي تفرضه الضرورة لحماية الأمانة، وصونًا لحقوق الموقوف عليهم، فالغاية من العزل ليست الإقصاء؛ بل ضمان أن تبقى إدارة الوقف في أيدٍ أمينة، قادرة على الوفاء بشروط الواقف وتحقيق مقاصده.
ومن هنا، فإنَّ عزل الناظر لا بد أن يُبنى على تحقق السبب وثبوته بشكل شرعي ونظامي، مع مراعاة الأحكام الشرعية والأنظمة المرعية، حتى يبقى الوقف مؤسسة فاعلة، ومنارة خير مستدامة، تؤدي دورها في خدمة التنمية والمجتمع، وتحقق رضا الله تعالى ونفع عباده.
([1]) أصل المحتوى العلمي رسالة ماجستير للكاتب، بعنوان (أحكام العزل من نظارة الوقف وفقًا للائحة تنظيم أعمال النظارة).