التوظيف النوعي في الكيانات الوقفية: استثمار في الأثر وتجسيد لحكمة الناظر
لم يعد نجاح الكيانات الوقفية يُقاس بكثرة المشاريع أو تنوع المصارف فحسب، بل أصبح يُقاس أولًا بجودة الإدارة، وعمق الأثر المجتمعي، واستدامة الأداء على المدى الطويل، فالتحدي الحقيقي لم يعد في إطلاق المشاريع، بل في قدرتها على الاستمرار وتحقيق أهدافها بكفاءة وفاعلية.
ومن هذا المنطلق، وجب على الكيانات الوقفية أن تواكب الحاجة إلى الاستثمار في الإنسان، وأن تُولي توظيف الكفاءات والخبرات -بوصفها رأس مال بشري ثمين-، أولوية قصوى، إذ لم يعد ذلك مجرد حاجةٍ تشغيليةٍ لسد الفراغ، بل خيارًا استراتيجيًا مهمًا، يعكس وعيَ الناظر، وحُسنَ تصرفه، وبُعدَ نظره في إدارة هذه الأمانة العظيمة، بما يحقق عظيم الأثر في تحقيق مقاصد الوقف بأعلى درجات الكفاءة والنزاهة، وبتأثيرٍ يمتد أثره لأجيال قادمة.
الكفاءة البشرية أولًا.. نحو وقف أكثر تأثيرًا واستدامة
المواردُ الماليةُ مهما عظُمت، لا تُثمر وحدها ما لم تُدار بعقولٍ راشدةٍ وكفاءاتٍ متميزة، فالعبرة ليست بما يُملك من أموال، بل بكيفية استثمارها وتوجيهها لتحقيق الأثرِ المنشود، ومع ما يشهده الواقع اليومَ من تزايدٍ في التحديات، وتشابكٍ في المسائل الإدارية، والشرعية والتقنية، أصبح من الضروري أن تتجه الكيانات الوقفية إلى استقطاب أصحاب الخبرات والمؤهلات العالية، لا سيما في مواقع القرار والتخطيط والتطوير، حيث تُبنى الرؤى، وتُتخذ التوجهات التي تحددُ مصير الوقف وترسمُ ملامح مستقبله.
غير أنَّ التوظيف النوعي لا يتحقق عفويًا، بل يحتاج إلى جهد واعٍ ومدروس، يبدأ من التحليل الدقيق لاحتياجات الكيان، ويمر بعملياتِ بحثٍ وتقييمٍ صارمة، وينتهي بتوفير البيئة الجاذبة لتلك الكفاءات، فكل ساعةٍ تُصرف في اختيار الأشخاص المناسبين بعناية، ليست وقتًا ضائعًا، بل تُعدّ استثمارًا طويل الأمد، يُسهم في بقاء الأثر ونماء الوقف، ويُعزز من قدرة المؤسسة على مواكبة التحديات، وتحقيق رسالتها بكفاءةٍ واستدامة.
من إجراءٍ إداري إلى قرارٍ استراتيجي
التوظيف في الأوقاف يجب ألا يُرى كملء شاغر؛ بل كـقرارٍ تأسيسيٍ يُبنى عليه مستقبل الكيان، فهو ليس إجراءً إداريًا عابرًا، بل خطوةً استراتيجيةً تحدد مسار المؤسسة لعقود قادمة، فاختيار الشخص المناسب لا يقتصر فقط على تسيير العمل اليومي، بل يمتد إلى بناءِ هويةٍ مؤسسيةٍ واعية، وتشكيل فرق عملٍ قادرةٍ على إحداث الأثر المنشود.
وقد أظهرت دراسات مثل McKinsey (2021)(1) أنَّ الفرق الصغيرة المتميزة تتفوق في الأداء والتأثير على الفرق الكبيرة ذات الكفاءة المحدودة، مما يؤكد أن الجودة تتفوق على الكمية حين يتعلق الأمر برأس المال البشري، ومن هنا، فإنَّ التوظيف النوعي لا يُعدّ ترفًا تنظيميًا، بل هو البوابة الأولى لبناء ثقافة مؤسسيةٍ فعّالة، وأرضية صلبة لصناعة فرق قيادية تمتلك الرؤية والمهارة، وقادرة على تحويل الوقف من مصدر إنفاق تقليدي إلى رافعةٍ تنمويةٍ حقيقية، تُسهم في تعزيز الاستدامة، وتحقيق المقاصد.
لماذا يُعد التوظيف النوعي ضرورةً استراتيجيةً في الأوقاف؟
تمتاز الأوقاف بطبيعة خاصة تجعل من التوظيف النوعي فيها ضرورةً لا خيارًا، وذلك لارتباطها بثلاثة أبعاد جوهرية، تُميّزها عن غيرها من المؤسسات:
- البُعد الشرعي: القائم على الوقف يتحمل أمانةً شرعية، مما يتطلب أن يكون مأمونًا، عارفًا بشروط الواقف، حريصًا على تعظيم النفع، وتحقيق مقاصد الوقف، دون إخلال أو تفريط.
- البُعد التنموي: المؤسسات الوقفية اليوم تسعى إلى توظيف أدوات حديثة في مجالات الاستثمار، الحوكمة، والإدارة الذكية، مع ضرورة التوازن بين حفظ الأصول وتنميتها، وهذا يتطلب نوعًا خاصًا من الكفاءات، تمتلك القدرة على استخدام هذه الأدوات الحديثة، دون التفريط في المقاصد الشرعية للوقف.
- البُعد المجتمعي: يَنظر المجتمع إلى الوقف باعتباره نموذجًا في النزاهة، والشفافية، والاستدامة، لا مجرد جهةٍ خيريةٍ تقليدية، ولهذا، فإن المسؤولية تتضاعف في اختيار موظفين يمثلون هذه القيم، ويُسهمون في تعزيز الصورة الإيجابية للوقف، وترسيخ مكانته كمؤسسةٍ موثوقةٍ ومؤثرةٍ داخل الإطار المجتمعي.
وكلّ ذلك يؤكد أن التوظيف النوعيّ أصبح ركيزةً أساسية وحاجة ماسّة، في بناء كيانٍ وقفي مستدام ومؤثر، فكلّ قرار توظيف في الأوقاف هو استثمار مباشر في تعظيم النفع، وضمان الاستمرارية، وتحقيق المقاصد الشرعية والاجتماعية للوقف.
أثر التوظيف النوعي… بالأرقام والنتائج
تؤكد الدراسات العالمية والمحلية هذه الرؤية الاستراتيجية، مؤكدةً أن التوظيف النوعي ليس مجرد اختيار أفراد، بل استثمارٌ مؤثرٌ في قلب المؤسسة؛ فوفقًا لتقرير Gallup (State of the Global Workplace 2023)(2)، فإنَّ المؤسسات التي تستثمر في الكفاءات تحقق نتائج ملموسة، أبرزها:
- ارتفاع الإنتاجية بنسبة تصل إلى 21%.
- تحسّن جودة الخدمات بنسبة 30% بفضل توظيف الخبرات المتخصصة.
- انخفاض معدل الدوران الوظيفي بأكثر من 40% عند وجود معايير واضحة وآليات اختيار دقيقة.
أما في سياق العمل الوقفي تحديدًا، فتشير تقارير الهيئة العامة للأوقاف في المملكة العربية السعودية (2022 – 2023)(3) إلى نتائج ملحوظة تحققت بفعل التوظيف النوعي، منها:
- ارتفاع العائد الاستثماري على الأصول الوقفية بنسبة 18% خلال عامين؛ بعد تعيين مديرٍ تنفيذيٍ يمتلك خبرة شرعية ومالية.
- تحسّن حوكمة قرارات الصرف، لتصبح أكثر دقةً واتساقًا مع شروط الواقفين.
- إطلاق مشاريع مبتكرة حوّلت الأوقاف التقليدية إلى أدوات تنموية مجتمعية.
- تقليص الهدر الإداري، ورفع كفاءة الإنفاق بنسبة تجاوزت 30%.
هذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات، بل شواهد على أن اختيار الكفاءات هو استثمار في المستقبل، وبوابة لتعظيم الأثر وتحقيق الاستدامة.
خطواتٌ عمليةٌ لبناء منظومة توظيفٍ نوعيةٍ في الأوقاف
- التحديد الدقيق للاحتياجات الوظيفية وربطها بشكل مباشر برؤية الوقف وتوجهاته.
- وضع معايير واضحة للاستقطاب تتماشى مع احتياجات الوقف، وتشمل:
- معايير أساسية مثل: الكفاءة، الأمانة، الإيمان برسالة الوقف وأهدافه، الالتزام بالقيم المهنية والأخلاقية، تحمل المسؤولية، والقدرة على التطور.
- معايير مهنية مثل: مؤهلات علمية وخبرات عملية مناسبة لطبيعة الوظيفة، المهارات الفنية والتقنية، التخطيط، إدارة الفرق، العمل الجماعي والمرونة.
- ويمكن إضافة أي معايير أخرى حسب متطلبات الوظيفة وتطلعات المنظمة.
- إجراء تقييمات واختبارات حقيقية، بعيدًا عن المجاملات أو التسرّع، لضمان اختيار الكفاءات المناسبة.
- إثراء الوقف بالتنوع الوظيفي من حيث التخصصات، الخبرات والخلفيات الثقافية.
- خلق بيئة عمل إيجابية ومحفزة تساعد على جذب الكفاءات وتحفزهم على الاستمرار والإبداع.
- تصميم سلّم رواتب جاذب، يوضح للموظف مراحل النمو المالي من علاوات وترقيات تحفز النمو مع الوقف.
- تصميم مسارات تدريب وتطوير داخلية لضمان استدامة الأداء وتطوير القيادات من داخل المؤسسة.
الرواتب الجيدة ليست ترفًا.. بل ضرورة
الكفاءة لا تبحث عن راتب فقط، بل عن بيئة جاذبة، ومؤسسة لديها قيمة حقيقة، وأثر يلامس الواقع؛ لذا فإن الرواتب التنافسية ليست استنزافًا لموارد الوقف، بل هي استثمارًا في استقرار الوقف ونموه، ومن صور الإحسان الداخلي الذي ينعكس على جودة العطاء الخارجي.
أما غياب الرواتب الجاذبة فيؤدي إلى:
– تسرب الكفاءات.
– سيطرة الموظفين متوسطي الأداء.
– ضعف في التجديد والإبداع داخل المؤسسة.
وبلغة الأرقام: تشير Harvard Business Review (2022)(4) إلى أن الإنفاق العادل على الكفاءات يرفع الولاء المؤسسي بنسبة تصل إلى 50٪، بينما أوضحت Deloitte (2023)(5) أن ضعف الرواتب وفرص التطوير من أهم أسباب هجرة الكفاءات من القطاع غير الربحي.
خاتمة: التوظيف النوعي.. حفظ لأصل الوقف وتنمية لثمرته
تُعدّ الأوقاف اليوم في حاجة ماسّة إلى مراجعة شاملة لسياسات التوظيف، ليس من حيث الشكل فقط، بل من حيث القيم والمعايير وسبل التمكين والتحفيز، فالناظر الذي يُحسن اختيار الكفاءات، ويوفّر لهم بيئة عمل محفزة، ويقدّر جهودهم ماديًا، هو في الحقيقة يؤسس لمستقبل يليق برسالة الوقف ويعزز استدامته.
إن الوظائف في مؤسسات الوقف ليست مجرد شواغر تُملأ لإكمال الهيكل التنظيمي، بل هي في حقيقتها وسائل فاعلة لتفعيل الأداء، وتعزيز الإنتاجية، وتوسيع نطاق الأثر، وكل جهد يُبذل في البحث عن الكفاءات وتوظيفهم باحترافية، هو انعكاس للأمانة التي يحملها الناظر، ودليل على حكمته ووعيه القيادي.
ومتى أُحسن التوظيف، وأُتقن التمكين، واحتُرِم التخصص؛ فإن الأوقاف بإذن الله ستكون أقرب لتحقيق مقاصدها، وأشد أثرًا في مجتمعاتها، وأكثر تمكينًا لأدوارها، وأعظم أجرًا وثوابًا عند الله تعالى.
فبناءً على ما تقدم، يتّضح أن التوظيف النوعي في الأوقاف لا يمكن النظر إليه كخيار إداري روتيني أو قرار تنظيمي عابر، بل هو توجه يحمل في طياته مسؤولية كبرى تتقاطع فيها الأمانة الشرعية مع المهام الإدارية، والعاملون الأكفاء ليسوا فقط موظفين، بل هم شركاء في حمل رسالة الوقف، ومفاتيح فاعليته في الميدان، ليصبح بذلك التوظيف النوعي بابًا لتحقيق الأثر، وسبيلاً لاستمرار الخير الذي أنشئ الوقف من أجله، وهو ما يُرجى معه القبول والبركة من الله تعالى.
(1) انظر: https://www.mckinsey.com.br/capabilities/people-and-organizational-performance/our-insights/unleashing-the-power-of-small-independent-teams.
(2) انظر: https://www.gallup.com/workplace/349484/state-of-the-global-workplace.aspx.
(3) انظر: https://www.awqaf.gov.sa/sites/default/files/2023-05/AWQAF_Annual_report_2022_compress.pdf.
(4) انظر: https://www2.deloitte.com/content/dam/insights/articles/glob175985_global-human-capital-trends-2023/GLOB175985_HUMAN-CAPITAL-TRENDS-2023.pdf?utm_source=chatgpt.com.
(5) انظر: https://www2.deloitte.com/content/dam/insights/articles/glob175985_global-human-capital-trends-2023/GLOB175985_HUMAN-CAPITAL-TRENDS-2023.pdf?utm_source=chatgpt.com.