محتويات المقال

الكاتب

أ.عبدالله بن خالد الزيد

المستشار القانوني في شركة استثمار المستقبل

نهر الوقف والنّاظر الفعّال

الوقف نهرٌ جارٍ لا ينقطع ماؤه، يسقي أرض المجتمع جيلًا بعد جيل، ويغرس في النفوس معنى العطاء المتجدد، ليشعر الناس أن الخير يمكن أن يستمر متدفقًا، مهما تعاقبت الأزمنة واختلفت الأحوال، غير أنّ هذا النهر قد يعتريه ما يعكر صفوه أو يغيّر مجراه، فيحتاج إلى عينٍ ساهرةٍ ترعاه، ويدٍ أمينةٍ تصون مجاريه، وتدفع عنه ما قد يرديه أو يقوّض نماءه، وهنا يأتي دور ناظر الوقف؛ فهو الذي يراقب تدفق النهر، فيسدّ ما انصدع من ضفافه، وينقّي ما علق بمائه، ويهيّئ له السبل ليظل نفعه جاريًا كما أراد له الواقف.

هذه المهمة العظيمة لا تكفي فيها النية وحدها، بل تحتاج إلى مهاراتٍ راسخة، ومعرفةٍ واسعة، وخبرةٍ تمكّن الناظر من أن يحسن الرعاية والتدبير، فبقدر ما يتسلّح به من خبرات، يبقى الوقف معينًا لا ينضب، وموئلًا لا يغيض، ويمتدّ أثره بامتداد نهرٍ لا ينحسر؛ فإن أحسن الناظر الحفاظ على موضع العين من مجرى الماء، ظلّ الوقف جاريًا على وجهه، وإن غفل عنها اختنق النفع في منعطفاته، وليس ذلك أثرًا معنويًا فحسب، بل حقيقة شرعية راسخة: فشرط الواقف هو مصبُّ النهر، يوجّه جريانه، ويحدّد مساره، ويضبط منابعه ومجاريه، وبقدر التزام الناظر بهذا المصبّ، يبقى الوقف جاريًا في مجراه الصحيح، لا يتشتت ولا ينحرف، وتبقى أعماله مضبوطةً بالوجه الذي يحقق مقاصد الواقف ويحفظ نفع الوقف للأجيال.

دور الناظر لا يقتصر على الرعاية الصورية أو التسيير الروتيني؛ بل هو مسؤولية تقتضي معرفةً دقيقةً بعوامل القوة والضعف، وقدرةً على الموازنة بين المصالح والمفاسد، واستشراف ما قد يطرأ على الوقف من تحدياتٍ أو فرص، إنّ الناظر الفعّال هو الذي يجمع بين الحزم واللين، وبين الرؤية الاستراتيجية والإدارة اليومية، فيلتزم بشروط الواقف من جهة، ويستثمر الوسائل المعاصرة من جهة أخرى، دون أن يخلّ بالتوازن الدقيق الذي قامت عليه فكرة الوقف عبر القرون.

ومن التحديات الكبرى التي تواجه الناظر: تعقّد الأنظمة الحديثة وتنوع المتطلبات النظامية والمالية، إضافةً إلى ضغط الواقع الاقتصادي الذي قد يدفع إلى قرارات سريعة غير مدروسة، فضلًا عن اختلاف وجهات النظر بين المستفيدين والجهات الإشرافية، فكل ذلك يستدعي ناظرًا متأهّبًا، واسع الاطلاع، متسلحًا بالمهارات التي تتيح له عبور هذه المنعطفات بثباتٍ وأمان، ومن هنا يبرز سؤال جوهري: ما هي المهارات التي لا غنى للناظر عنها ليكون مؤثّرًا حقًا؟

للإجابة على هذا السؤال، أجريتُ استبانةً ميدانيةً شملت عشرات النظار والواقفين والعاملين في القطاع الوقفي، جاءت نتائجها متفقةً على أن المهارات الإدارية والقيادية تتصدر قائمة المهارات المطلوبة، تليها المعرفة الشرعية بفقه الوقف وأحكامه، ثم الخبرة المالية والاستثمارية، إضافةً إلى مهارات الاتصال وبناء العلاقات، والقدرة على التكيّف مع المتغيرات.

تعكس هذه النتائج صورةً واضحةً لما ينبغي أن يتحلّى به الناظر من مهارات؛ إذ لا يكون مؤثرًا بالعلم وحده، ولا بالإدارة المجردة، ولا بالنية الطيبة فقط، بل باجتماع هذه العناصر كلها أو جزء منها، في شخصٍ واحد؛ يعي مسؤوليته ويؤدي أمانته، وبذلك يتضح أن الناظر الفعّال هو الركيزة التي يقوم عليها دوام الوقف ونماؤه، فبقدر ما يحسن القيام بمهامه، تبقى الأنهار جارية في مجاريها، تسقي أودية المجتمع بالخير، وتورث الأجيال القادمة ثمارًا يانعة من بركات العطاء المستمر.

الاستبانة:

تم إجراء الاستبانة من تاريخ 2 يونيو إلى 25 يوليو 2025م، جرى استخراج نتائجها على النحو الآتي:

  • المشاركون:

المشاركون في الاستبانة

الصفة العدد
ناظر 38
موظف في تشغيل الأوقاف 18
واقف 8
مستشار وباحث 4
غير ذلك 16
  • أنواع الأوقاف:

أنواع الأوقاف
النوع العدد
عام خيري 38
خاص أهلي 17
مشترك 29
  • مستوى الخبرة:

خبرة المشاركين
الخبرة العدد
ذوي الخبرة القصيرة (1–5 سنوات) 35
أصحاب الخبرة المتوسطة من (6–10 سنوات) 15
ذوي الخبرة الطويلة (أكثر من عشر سنوات) 34
  • المهارات الأساسية:

خلُص المشاركون إلى اختيار عشر مهارات أساسية يجب أن يمتلكها ناظر الوقف، في حين اقترح بعضهم مهارات أخرى، وفيما يلي ترتيبُ المهارات وفق متوسط التقييم (1–5)، مع نسبة مَن قيّم من المشاركين 4 أو 5، وهو ما يُعرف اصطلاحاً بالتقييم العالي (Top-2):

م المهارة متوسط التقييم (1-5) نسبة مَن قيّم 4 أو 5
1 استثمار موارد الوقف وتوظيفها بما يحقق غرض الواقف 4.76 95.2%
2 تفسير شروط الواقفين وتطبيقها بدقة 4.68 95.2%
3 المشاركة والتفاعل مع مجلس النظارة (إن وُجد) 4.65 93.5%
4 الإلمام بالأحكام الشرعية والنظامية الخاصة بالوقف 4.63 95.2%
5 التعامل مع النزاعات أو الخلافات بحكمة واتزان 4.58 93.5%
6 توثيق أعمال الوقف وحفظها بطريقة منظمة وقابلة للرجوع 4.53 91.9%
7 لتواصل الفعّال مع الجهات ذات العلاقة بالوقف 4.21 80.6%
8 إعداد خطط تشغيلية سنوية واضحة للوقف 4.16 77.4%
9 مراجعة وتفسير التقارير المالية والمحاسبية للوقف 4.10 77.4%
10 استخدام التقنية لتيسير إدارة الوقف ومتابعة أعماله 3.95 67.7%

لتُظهر النتائج أن المهارات الأكثر أهمية للناظر هي: استثمار موارد الوقف، يليها تفسير شروط الواقفين، ثم المشاركة والتفاعل مع مجلس النظارة والإلمام بالأحكام الشرعية والنظامية، إلى القدرة على التعامل مع النزاعات والخلافات.

نتائج استخدام المهارات لدى المشاركين:

  • من حيث الخبرة:

مهارة استخدام التقنية
الخبرة التقييم
ذوي الخبرة القصيرة (1–5 سنوات) أدنى من (3.67)
أصحاب الخبرة المتوسطة من (6–10 سنوات) (4.07)
ذوي الخبرة الطويلة (أكثر من عشر سنوات) (4.27)
مهارة إعداد الخطط التشغيلية
الخبرة التقييم
ذوي الخبرة القصيرة (1–5 سنوات) (3.92)
أصحاب الخبرة المتوسطة من (6–10 سنوات) (4.03)
ذوي الخبرة الطويلة (أكثر من عشر سنوات) (4.03)
  • من حيث نوع الوقف:

نوع الوقف المهارة
الخاص (الأهلي) يرفع مهارة الإلمام بالأحكام إلى 4.90 (الأعلى بين المهارات)
العام (الخيري) أعلى متوسط لمهارة الاستثمار (4.79)
  • من حيث الصفة:

الصفة المهارة
الواقفون مهارة التواصل مع الجهات، هي الأعلى بين المهارات بتقييم (4.63)
النظار يقيّمون مهارة التقنية بأعلى من (4.05)
الموظفون المشاركون يقيّمون مهارة التقنية بـ(3.77)

المقترحات الحرّة في الاستبانة:

بلغ عددها (33) ردًّا، تكررت من خلالها عدة محاور رئيسة؛ أبرزها الاستثمار وتنمية الموارد بـ(7 إشارات)، تلتها محاور التواصل والعلاقات وخدمة المستفيدين بـ(3 لكل منها)، ثم التحليل المالي وإدارة المشاريع بـ(2 إشارتين لكل محور).

كما برزت مجموعة من الكلمات المساندة لتفعيل المهارات السابقة، من بينها: التفويض، وإدارة المخاطر، والتوثيق والشفافية.

 

الخاتمة العملية:

تكشف نتائج الاستبانة أن بناء قدرات الناظر الفعّال لا يقوم على مهارة واحدة، بل على منظومة متكاملة تتصدرها القدرة على استثمار موارد الوقف وتنميتها، وفهم شروط الواقفين وتطبيقها بدقة، والتفاعل المؤسسي مع مجلس النظارة، والإلمام بالأحكام الشرعية والنظامية، إضافة إلى حسن إدارة النزاعات والخلافات، هذه المجالات تمثل القاعدة الصلبة لأي ممارسة مهنية ناجحة في أعمال النظارة.

كما أوضحت النتائج وجود فجوة واضحة في استخدام التقنية؛ إذ يميل أصحاب الخبرة الطويلة والوقف الأهلي إلى تقييمها بأهمية أدنى من غيرهم، وهذا يستدعي إعداد خطة تحول رقمي متدرجة وواقعية، تبدأ بأبسط الأدوات الممكنة (أنظمة أرشفة، لوحات متابعة، تطبيقات ERP مبسطة)، مع تمكين النظار الأكثر تقبلًا للتقنية ليكونوا روادًا وسفراءً للتغيير داخل القطاع.

أما في جانب التواصل والعلاقات، فقد أبرز الواقفون أنفسهم أهميته المحورية، مما يفرض على النظار تبني برامج شراكات وعلاقات فاعلة مع الجهات الحكومية وغير الربحية والممولين، باعتبارها إحدى بوابات استدامة الوقف وتوسيع أثره، ومن ناحية التوثيق والامتثال يتبيّن أن الحاجة ما تزال قائمةً لتعزيز أدوات الأرشفة، وربطها بسياسات تشغيلية واضحة، تضمن سهولة الرجوع والشفافية.

وفي المجال المالي، ورغم أن متوسط التقييم كان جيدًا، إلا أنه أقل من غيره؛ وهو ما يفتح الباب أمام برامج تدريبية مركّزة في تفسير القوائم المالية، ومؤشرات الأداء، وتحليل المخاطر الاستثمارية، بما يرفع كفاءة القرار المالي للناظر، ويكتمل ذلك كله بدعم الحوكمة المؤسسية، من خلال تحديد الأدوار والصلاحيات بدقة، وتعزيز قنوات العمل مع مجالس النظارة، وتبني آليات واضحة لمعالجة النزاعات مثل الوساطة أو التحكيم الداخلي.

وبذلك يتضح أن الناظر الفعّال ليس مجرد منفذ لإجراءات روتينية، بل قائد يمزج بين الالتزام بشرط الواقف من جهة، والتفاعل مع أدوات الإدارة الحديثة من جهة أخرى، بما يحقق التوازن الدقيق الذي يحفظ للوقف رسالته ويضمن نماءه واستدامته عبر الأجيال.

وهكذا يتبيّن أن النهر الجاري -الذي شبّهنا به الوقف- لا يبقى صافيًا رقراقًا إلا إذا تولّاه ناظرٌ فعّال، يملك أدوات الرعاية والتجديد، ففهمُ شروط الواقف؛ هو المصبّ الذي يوجّه اتجاهه، واستثمارُ موارده وتنميتُها؛ هي كثرة ماء النهر وعمق مجراه، والتفاعل مع مجلس النظارة؛ هو صفاؤه الذي يُبقيه نقيًّا، والإلمامُ الشرعي والنظامي؛ هو ضفافُه التي تضبط جريانه وتحفظه من الانحراف، وإدارةُ النزاعات والخلافات؛ هي سدودٌ محكّمة تمنع انكساره وتعيد تنظيم تدفّقه، أما المهارات الأخرى؛ فهي روافد مساندة تصب فيه من جوانب شتّى، فتزيد انسيابه، وتوسّع مجراه، وتضاعف خيره العائد على المستفيدين.

وبقدر ما يُحسن الناظر استخدام هذه الأدوات، يبقى النهر جاريًا متدفقًا، يسقي أرض المجتمع بالخير، ويورّث الأجيال ثمار الوقف كما أراد له واقفوه، عطاءً لا ينقطع، ونفعًا لا يغيض.

كلمات ذات صلة: