نشأة وتطور الأوقاف في الأندلس
نشأة وتطور الأوقاف في الأندلس
تعدُّ الأوقاف من مفاخر الحضارة الإسلامية، إذ تمثل صورة مشرقة من صور التكافل الاجتماعي الذي يربط المجتمع ببعضه ويقوي الأواصر بين أفراده، ونظرًا لأهمية الأوقاف؛ فقد أولاها الأندلسيون عناية كبيرة على اختلاف طبقاتهم، وحرصوا على المشاركة فيها، مما أدى إلى انتشارها وتنوعها، لما لها من منافع عظيمة للفرد والمجتمع، فخلال عصور التاريخ الأندلسي المتعددة، وُجد كثيرٌ من الأوقاف التي أنشأها الأمراء، والخلفاء، والملوك، والوزراء، والفقهاء، والتجار، والنساء، لتؤدي بذلك دورًا فاعلًا في دعم الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وغيرها من المجالات التي تسهم في تنمية المجتمع وتعزيز قوّته.
عبّر الأندلسيون عن الوقف بلفظ “الحُبُس”، وهو جمع “حَبِيس”، وتجمع أيضًا على “أحباس” و “حبائس”، ويُقصد بـحبس الشيء: أن يُوقِفه صاحبه وقفًا محرّمًا لا يُورث ولا يُباع([1])، ولفظي الأحباس والأوقاف بمعنى واحد، غير أن كلمة “الأحباس” كانت شائعة عند الأندلسيين والمغاربة ، بينما شاع استخدام لفظ “الأوقاف” لدى المشارقة.
وقد كانت الأوقاف – أو الأحباس – في الأندلس تتبع في بدايات نشأتها بحسب ما تشير إليه المصادر التاريخية، للقاضي([2])، إذ كان هو الذي يعقد صكوك الوقف، كما حدث في صك الوقف الذي عقده القاضي عبد الرحمن بن طريف اليحصبي في مالٍ يعود إلى أم العباس وأم الأصبغ أختَي الأمير عبد الرحمن الداخل([3]).
ويظهر أن خطة الأحباس قد استقلت بوالٍ خاصٍ بها في عهد الأمير عبد الرحمن الأوسط، عُرف باسم: “صاحب الأحباس”، وكان هذا الوالي يعمل تحت إشراف القاضي في قرطبة، باعتبار أن الأحباس من ضمن اختصاصات القاضي، الذي يتوجب عليه متابعة أعمالها والرقابة عليها، وقد تجلى هذا التنظيم بوضوح في عهد الخليفة الحكم المستنصر، الذي أمر في عهده الذي أصدره لقاضيه محمد بن السليم بأن “يجدد الكشف والامتحان عن أموال الناس والأحباس…” ([4]).
وتذكر المصادر أن من أوائل من استُقلّ بوظيفة النظر في الأحباس رجلٌ كلّفه القاضي معاذ بن عثمان الشعباني أثناء ولايته القضاء، كما تولى يزيد الغافقي هذا المنصب في عهد القاضي أحمد بن زياد اللخمي، وكذلك تولاه هاشم بن أحمد الغافقي في أيام ولاية القاضي منذر بن سعيد البلوطي للقضاء، وتولاه لاحقًا هاشم بن محمد الأنصاري بالمشاركة مع محمد بن سعيد بن قرط في أيام ولاية القاضي محمد بن السليم للقضاء([5]).
أما خارج مدينة قرطبة، فقد كان الأمير أو الخليفة يعيِّن على الأحباس من يثق به، كما فعل عبد الرحمن الناصر حين ولّى مكي بن صفوان أحباس مدينة إلبيرة([6])، أو يسندها إلى قاضي البلد، فحين ولى عبد الرحمن الناصر أبا عيسى يحيى بن عبد الله الليثي قضاء إلبيرة أسند إليه النظر في الأحباس([7]).
أما الأحباس والأوقاف الخاصة بالخليفة فقد كان يتولى النظر فيها رجل من خاصة الخليفة، كما هو الحال حين أوقف الخليفة الحَكم المستنصر رُبع ما ورثه من الضياع عن أبيه الناصر على فقراء الثغور بالأندلس، على أن تُصرف على فقراء قرطبة في حال وقوع مجاعة، فتفرق في ضعفائهم إلى أن ترتفع المجاعة، وجعل النظر في هذه الأوقاف إلى حاجبه جعفر بن عبد الرحمن الصقلبي([8]).
وكذلك الأحباس التي كان يوقفها رجالات الدولة والأثرياء، فقد جرت العادة أن يُعيَّن عليها رجل من اختيارهم يتولى الإشراف عليها، فقد تولى محمد بن أحمد بن عبيد الله الرعيني النظر في أحباس جعفر الفتى الحاجب([9])، ولهذا فقد كان يُشترط لصاحب الأحباس شروطٌ ينبغي أن تتوافر فيه، منها أن يكون بالغًا عاقلًا، عَدْلًا، ذا ديانة وفضل، وذا كفاية فيما يتولاه([10]).
وكان صاحب الأحباس يباشر عمله في نفس الموضع الذي يكون فيه القاضي، ليكون تحت نظره ومتابعته، فإذا أخل بعمله وجب على القاضي عزله ومحاسبته، فحين عزل القاضي محمد بن يبقى زرب صاحبَ الأحباس محمد بن سعيد بن قرط، وُجدت عليه شبهة، فأُلزم بغرامة ما فُقد من أموال الأحباس، حتى مات فقيرًا([11])، وإذا عُزِلَ القاضي عن منصبه، فإن ولاية صاحب الأحباس تبقى قائمة، ما لم يُقدِم القاضي الجديد على عزله، ولا يصح عزله إلا إذا ثبتت عليه جَرْحَة في عمله([12]).
أما أجرة صاحب الأحباس، فقد تكلم الفقهاء عن جواز أخذه للأجرة على عمله، وأن للقاضي أن يجعل لمن قدمه للنظر في الأحباس رزقًا معلومًا يُصرف له شهريًا، يحدده القاضي باجتهاده، إلا أنهم اختلفوا في مصدر هذه الأجرة، فذهب بعضهم إلى أنها تُصرف من بيت المال، وأجاز آخرون أن تؤخذ من أموال الأحباس نفسها([13]).
ويعاون صاحب الأحباس في أداء مهامه عدد من الموظفين، مثل القباض والكُتَّاب والشهود، فالقباض يُحَصِّل مداخيل الوقف، والكاتب يسجل ريع الحبس، والشهود يشهدون على صحة ذلك، وقد أورد الونشريسي في المعيار المعرب نصًا يوضح فيه عمل صاحب الأحباس ومعاونيه، فذكر أنه عند إجراء المحاسبة في الأحباس، يجتمع صاحب الأحباس مع الكتاب والقباض، ويدونون ريع الحبس، سواء كان شهريًا أو سنويًا، ثم يقسمون الريع على مصارف الوقف التي حددها الواقف في وثيقة وقفه، فيعطى كل ذي حق حقه وذلك بحضور شهود الأحباس المعينين من قبل القاضي([14]).
وكان من الواجب على متولي الأحباس أن يتعامل مع الناس وخاصة متقبلي الأحباس باللين والإحسان، خاصة إذا أُصيبت الأراضي الزراعية التي تقبلوها بالآفات والجوائح، وثبت ذلك عند القاضي([15])، وقد ذكر الونشريسي أن القاضي أبو الوليد ابن الصفار (ت 429هـ) كان يُراعي أحوال متقبلي الأحباس في مثل هذه الأحوال، فيرفق بهم ويسقط عنهم قبالة شهر([16]).
ومن مهام صاحب الأحباس كذلك الحفاظ على شروط الواقف، ومنع أي تغيير أو تبديل فيها، ويجب عليه أن يتفقد الأحباس على الدوام حتى لا يطمع فيها أو تستغل من غير مستحقيها، كما تقع عليه مسؤولية المحافظة على الأحباس وإعمارها وترميمها حتى تؤدي غرضها، وتعود بالمنفعة على مستحقيها([17]).
وقد يتداخل عمل صاحب الأحباس مع عمل غيره من أصحاب المناصب والولايات، خاصة عند تفقده للأحباس بهدف حمايتها من الهدم أو الإزالة، إذ يذكر الجرسيفي أنه ينبغي على المحتسب أن يتكلم “مع صاحب الأحباس بشأن ما رثّ أو تهدّم، أو ما تعطل من مرافق الأحباس، كالمساجد والشوارع والقناطر والميضئات وغيرها من مرافق المسلمين”([18]).
ومن أبرز مظاهر تطور نظام الأوقاف في الأندلس خلال عصر الدولة الأموية ما قام به الأمير المنذر بن محمد (273-275هـ) الذي بنى في المسجد الجامع بقرطبة دارًا لحفظ الأموال الموقفة لغُيَّاب المسلمين، وكانت هذه الدار عامرة بأموال الأحباس مما أطمع فيها السُرَّاق فتعرضت للسرقة سنة 353هـ في عهد الخليفة الحكم المستنصر، وكذلك نُهبت في زمن الفتنة البربرية([19]).
وقد كان الفقهاء يتولون كتابة عقود الأوقاف الخاصة بالأمراء والخلفاء، فعندما أوقف الأمير عبد الرحمن الأوسط في سنة 322هـ على اثنتين من بناته أملاكه بإحدى قرى الأندلس، اشترط أن يرجع الوقف إليه إن ماتتا في حياته، وإن لم يكن حيًا فيؤول الوقف إلى ولده من الذكور دون النساء، وعهِد الأمير بكتابة عقد الوقف إلى الفقيهين يحيى بن يحيى ومحمد بن خالد، ثم عرض العقد على الفقيه عبد الملك بن حبيب السلمي بحضورهما، فلما قرأه رأى أن الوقف على ذلك الوضع غير جائز، لأنها تُعد وصيةً لوارث، فطلب منه الأمير تصحيحه وكتابة العقد على الوجه الجائز ([20]).
ويبدو أن الأوقاف في الأندلس شهدت توسعًا ملحوظًا في عصر ملوك الطوائف (422-484هـ)، إذ أصبحت الأحباس (إدارة الأوقاف) خطة قائمة بذاتها مستقلة عن سلطة القاضي، ولعل السبب في ذلك تعدد الكيانات السياسية في تلك الفترة، وحرص كل حاكم على معرفة الأحباس الواقعة ضمن حدود سلطانه، لتكون تحت نظره إذا أراد توجيه مواردها لخدمة مصالح دولته، فقد ذكر ابن الأبار أن الفقيه فرج بن حديدة عندما استقر في إشبيلية خصّه المعتضد بن عباد براتبٍ ونفقةٍ من الأحباس([21]).
وقد أشارت المصادر إلى أسماء بعض الشخصيات التي تولت خطة الأحباس في دول الطوائف، فقد كان محمد بن أحمد بن الصفار التجيبي صاحب الأحباس في أوريولة ([22])، كما ذكر ابن بشكوال في ترجمته لمحمد بن عيسى الرعيني أنه كان يُعرف بابن صاحب الأحباس، ولعلّ والده كان يتولى أحباس قرطبة أو المرية في عهد الدولة العامرية أو بداية عصر الطوائف([23])، كذلك تولّى محمد بن مكي القيسي (ت 474هـ) الشرطة والسوق بالإضافة إلى الأحباس في قرطبة([24])، أمّا في طليطلة، فقد كان صاحبا الأحباس هما عبد الرحمن بن محمد ابن البيرولة وقاسم بن كهلان، وفي إشبيلية كان صاحب الأحباس في عهد المعتمد بن عباد (461-484هـ) هو محمد بن طيب([25]).
ولا تفيدنا المصادر بمعلومات وافية عن الأوقاف في عهد المرابطين والموحدين (484-620هـ)، ولكنها فيما يظهر عادت تحت إشراف القضاة، فقد ذكر النباهي أن القاضي أبا محمد عبد الله بن عمر الوحيدي (ت 542هـ) لما تولى القضاء برية “أخذ في تجديد ما دَرَسَ من رسم الأحباس… “([26]).
أما في عصر الموحدين (540 – 620هـ) فقد أصبحت الأحباس من موارد بيت المال، إذ يذكر النباهي أن الأمير محمد بن يوسف بن هود الذي ثار على الموحدين في آخر دولتهم واستقل بالأندلس، ولَّى محمد بن الحسن النباهي (ت 631هـ) قاضيًا على مالقة سنة 626ه، فتفرد “بالقضاء، والنظر في الأحباس؛ فصانها، واسترجع ما كان منها قد ضاع، أيام دول الموحدين، إلى الألقاب المخزنية؛ وقدم لضبطها، والشهادة فيها، ووضعها في أماكنها، الفقيه المقرئ الورع أبا محمد عبد العظيم بن الشيخ، وأجراها على منهاج السداد”([27]).
أما في عصر بني الأحمر بغرناطة (653-897هـ) فقد استمرت الأحباس تابعة للقاضي، إذ تذكر المصادر أن القاضي أحمد بن عبد الحق الجذلي (ت 765هـ) عندما تولى القضاء في مالقة، “تولى النظر في الأحباس”([28])، والملاحظ أنه لتقلص مساحة مملكة غرناطة وتركز السكان داخلها، ازداد عدد الأوقاف، مما استدعى تنظيمها بشكل أدق، فصار لكل وقف ناظر خاص به يعينه الواقف، ويعمل تحت إمرة القاضي، كما يظهر أنه كان هناك ناظر عام يسمى: ناظر الأحباس، يتابع أحوال الأحباس ويرفع تقاريره إلى القاضي([29]).
يتبيّن من خلال هذا العرض التاريخي أن نظام الأوقاف في الأندلس لم يكن مجرد تنظيم مالي أو إداري، بل كان ركيزةً حضاريةً ذات أبعاد دينية واجتماعية واقتصادية، تطورت مع تطور الدولة وتعدد أنظمتها، فقد بدأت الأوقاف في الأندلس تحت إشراف القضاة، ثم شهدت توسعًا وتنظيمًا دقيقًا، خاصةً في عصر ملوك الطوائف، حين أصبحت الأحباس وظيفة قائمة بذاتها تخضع أحيانًا لإشراف مباشر من السلطة الحاكمة، فكما كشفت الوثائق والأحداث أن نظام الأحباس كان يقوم على أسس قانونية دقيقة، واعتمد على شبكة من القائمين عليه ممن توافرت فيهم شروط النزاهة والكفاءة، وهو ما ساعد على استمراره واستقراره عبر القرون.
وعليه، فإن دراسة نشأة وتطور الأوقاف في الأندلس تمثل نافذة مهمة لفهم البُعد المؤسسي والاجتماعي للحضارة الإسلامية في الغرب الإسلامي، وفهم إدراك الأندلسيين لقيمة الوقف بوصفه آلية دائمة للخير والتنمية، كما تُبرز في الوقت ذاته ما تميزت به الأندلس من دقة في الإدارة، وحرص على ضبط شؤون المال العام والخاص بما يحقق المصلحة الشرعية والمجتمعية معًا.
([1]) تهذيب اللغة للأزهري، 4/198؛ ولسان العرب لابن منظور، 6/45؛ والقاموس المحيط للفيروز أبادي، ص 537؛ وتاج العروس للزبيدي، 15/522-523.
([2]) قضاة قرطبة للخشني، ص 64؛ وتاريخ قضاة الأندلس للنباهي، ص 50.
([3]) قضاة قرطبة للخشني، ص 40.
([4]) المرقبة العليا للنباهي، ص 76.
([5]) قضاة قرطبة للخشني، ص 86، 100؛ وتاريخ ابن الفرضي، 2/214، 215، والمقتبس لابن حيان، طبعة بيروت، ص 69.
([6]) تاريخ ابن الفرضي، 2/193.
([7]) ترتيب المدارك للقاضي عياض، 2/108.
([8]) البيان المغرب لابن عذاري، 2/218-219. حفظ
([9]) التكملة لابن الأبار، 2/36.
([10]) قضاة قرطبة للخشني، ص 100؛ وتاريخ ابن الفرضي، 1/389، 2/214؛ وترتيب المدارك للقاضي عياض، 2/108؛ والموسوعة الفقهية الكويتية، 44/205-210.
([11]) تاريخ ابن الفرضي، 2/126.
([12]) المختصر الفقهي لابن عرفة، 8/490؛ ومواهب الجليل للطرابلسي، 6/40؛ والمعيار المغرب للونشريسي، 7/83، 92-93.
([13]) المختصر الفقهي لابن عرفة، 8/491؛ والموسوعة الفقهية الكويتية، 44/410-219.
([14]) المعيار المغرب للونشريسي، 7/302
([15]) ديوان الأحكام لابن سهل، ص 609.
([16]) المعيار المغرب للونشريسي، 7/446.
([17]) آداب الحسبة لابن عبد الرؤوف، ص 83-84؛ ووثائق ابن العطار، ص 173؛ والمعيار المغرب للونشريسي، 7/301.
([18]) رسالة الجرسيفي في الحسبة، ص 124.
([19]) البيان المغرب لابن عذاري، 2/214، 221، 368.
([20]) المعيار المغرب للونشريسي، 7/417
([21]) التكملة لابن الأبار، 4/25؛ والذيل والتكملة لابن عبد الملك، 3/452.
([22]) التكملة لابن الأبار، 2/106؛ والذيل والتكملة لابن عبد الملك، 3/545.
([23]) الصلة لابن بشكوال، 2/149؛ وترتيب المدارك للقاضي عياض، 8/153.
([24]) الصلة لابن بشكوال، 2/184؛ وديوان الأحكام لابن سهل، ص 597.
([25]) بحوث في تاريخ الحضارة الأندلسية لكمال السيد، ص 177.
([26]) المرقبة العليا للنباهي، ص 104.
([27]) المرقبة العليا للنباهي، ص 113.
([28]) الإحاطة لابن الخطيب، 1/181.
([29]) المعيار المعرب للونشريسي، 7/48، 127، 129، 146، 164، 183، 235، 447.