الدراسات البينية في القطاع الوقفي: ضرورة منهجية لتعميق الرؤية وتفعيل الأثر
مقدمة:
تتسارع وتيرة التحولات في العالم على كافة الأصعدة: العلمية، التقنية، الاجتماعية والاقتصادية، حيث أصبحت العلوم والتخصصات متداخلة بشكل كبير، ولم يعد ممكنًا فهم ومعالجة كثير من قضايا العلوم من منظور واحد، فالتخصص بلا تكامل تشخيص قاصر، والتكامل دون تأصيل تعميم سطحي، أما البحث الرصين فوليدُ تلاقٍ بين العمق والأفق، خصوصًا إذا أدركنا “أنّ تكامل العلوم هو الأصل المطلق الذي يجب أن يضبط العلاقة بين التخصُّصات كافَّة؛ إذ لا يمكن لأي أمة الاستغناء عن أي نوع من أنواع المعرفة، وتكمن الإشكالية -خصوصًا- في غياب الوعي التكاملي الذي يربط بين علوم الوحي والعلوم الدنيوية، مما يؤدي إلى خلل في التصور العام والبناء المعرفي”(1)، وبذلك تتأكد الحاجة إلى التكامل والتشابك بين هذه الحقول المعرفية والتخصصات المختلفة، بما يتيح مقاربةً متعددة الأبعاد للظواهر والمشكلات، ويسهم في إنتاج حلول منهجية ومبتكرة تتجاوز حدود التخصص الواحد، وتستثمر الموارد المعرفية الكامنة في تداخل العلوم وتكاملها، لاسيما وأنّ التمايز والتخصص ظاهرة نشأت تاريخياً في سياق تطور المعرفة بوصفها منهجية تنظيمية طارئة، فرضتها الحاجة إلى تنظيم المعرفة وتعميق أدواتها في مجالات معينة، لكنه ليس أمرًا حتميًا أو أصيلًا في طبيعة المعرفة، خصوصًا في مناهج العلوم الإسلامية، التي كان التداخل المعرفي من أبرز سماتها؛ وبالتالي إذا لم يُدر هذا التمايز والتخصص بحكمة ومنهجية؛ فإنّه قد يؤدي إلى انفصال غير طبيعي، بخلق حقول مصطنعة وأنساق وهمية، وعزل المفاهيم والأدوات السيّارة ضمن إطار تخصص واحد، مما يعيق الفهم الشامل والرؤية الكلية للواقع والقضايا المطروحة(2)، وهنا تبرز الدراسات البينية؛ بوصفها مدخلًا بحثيًا يجمع بين تخصصات معرفية متعددة، من خلال دمج مناهجها ومفاهيمها، بهدف معالجة قضايا مركبة يتعذر استيعابها ضمن إطار تخصصي واحد، ولا تقتصر هذه الدراسات على مجرد استعارة المفاهيم والأدوات(3)، بل تؤسس لفهم جديد ناتج عن تفاعل معرفي ومنهجي يُنتج مقاربات أكثر عمقًا وشمولًا، ومن ثمّ؛ فهي تمثّل منهجية بحثية واعدة قادرة على إحداث تحول نوعي في طرق التفكير والبحث، تعزز من عمق التحليل، وتوسع أفق الفهم، وتقدم إجابات أكثر شمولية، وتضع حلولًا أكثر فاعلية واستدامة.(4)
وبتأمل حقل الدراسات الوقفية وما يواجه من تحديات ومستجدات معاصرة؛ نجد الحاجة مُلحّة للمزيد من هذا النوع من الدراسات بهدف تجاوز المقاربات البحثية الأحادية، والانفتاح على التكامل المعرفي مع العلوم الأخرى، فحصر هذه الدراسات في بُعد واحد يفقدها العمق في الفهم وصناعة الأثر، لا سيما وأنّ الوقف يتنازعه عدد من الاختصاصات؛ فمنشؤه أخروي يتصل بالنية والتقرب، وتأطيره شرعي يضبط شروطه ومصارفه، ووظيفته اقتصادية في مجالات الاستثمار والتنمية، وتأثيره اجتماعي في خدمة المستفيدين وتلبية احتياجاتهم، فطبيعته مركبة تتداخل فيه عدد من الجوانب، مما يصبغ قضاياه بشيء من التعقيد، تستلزم معالجة أعمق تراعي أبعاده المتنوعة، واحتياجاته المتجددة، وتحدياته المتراكمة عبر السياق التاريخي، فهي تدرس الممارسات الوقفية في سياقاتها الاجتماعية والاقتصادية بوصفها تجليات تطبيقية للأصل الشرعي؛ فمثلًا لإعداد دراسة عن (أثر التقنيات المالية (Fintech) في تسهيل عملية إنشاء وإدارة الأوقاف)؛ يتطلب فهمًا للأسس الشرعية لإنشاء الوقف وإدارته رقميًا، وتحليل النماذج الاقتصادية الممكنة لتقديم خدمات إنشاء وإدارة الأوقاف بكفاءة وفعالية وبتكلفة منخفضة، ودراسة سلوك المستخدمين من منظور اجتماعي ونفسي لفهم تفضيلاتهم واحتياجاتهم في التعامل مع منصات إنشاء وإدارة الأوقاف الرقمية، بالإضافة إلى الجوانب التقنية لتصميم منصات وقفية رقمية سهلة الاستخدام وآمنة وشاملة.
الإشكالية والمنهجية:
تتمثل الإشكالية الرئيسة في محدودية النظرة التي قد تُقيّد كثير من الدراسات الوقفية عند الانكفاء على حقول معرفية محددة، مما يؤثر على الإحاطة الشاملة بالوقف ودراسته كظاهرة مركبة، فواقع كثير من الدراسات الحالية يقوم في غالبه على فكرة “التخصص الدقيق”، وهذا وإن كان يساعد على الدقة في التفكير النظري؛ إلا إنه قد يؤدي إلى نقيضه في الواقع العملي، حيث إنّ الوقف كظاهرة اجتماعية(1) مركبة يتطلب تكاملًا على الصعيد المعرفي بين عدد من التخصصات المشكّلة لأبعاد واقعه المركب؛ بهدف فهمه بصورة أدق وأوضح.
مفهوم التكامل المعرفي في الدراسات الوقفية:
يتجاوز التكامل المعرفي مجرد استعارة أدوات أو مفاهيم من علوم أخرى، أو الدفع بموضوعات مختلفة بجوار بعضها، مما يحولها لمجرد ظاهرة شكلية؛ بل يستدعي إقامة حوار حقيقي وتفاعل منهجي بين تخصصات مختلفة، والمزاوجة بين فروع المعرفة ومناهج الوصول إليها، وفي سياق الدراسات الوقفية؛ يعني ذلك بناء جسور معرفية مع علوم وتخصصات أخرى، تثري الحقل الوقفي فعليًا؛ ابتداءً من تحديد مشكلة الدراسة بدقة، على أن تكون بطبيعتها مركبة، مع بيان أوجه القصور أو التحدي التي تستدعي المعالجة من زوايا متعددة، وبناءً على هذه المشكلة يختار الباحث التخصص الرئيس والآخر المساند الذي يعينه في المعالجة، ثم يحدد ما إذا كانت مبادرته البحثية فردية أو مشتركة مع باحثين من تخصصات أخرى، بعد ذلك يسير الباحث – سواءً كان فردًا أو فريقاً- وفق المعهود من صياغة العنوان الذي يتسم بالدقة والوضوح، ويعكس العلاقة والتداخل بين التخصصات محل الدراسة، ويعبّر عن جوهر المشكلة البحثية، ثم بيان أهمية الموضوع وأسباب اختياره، والأهداف التي يطمح لتحقيقها، بعد ذلك ينتقل إلى صياغة سؤال البحث البيني والذي يركز على دمج المفاهيم بين مجالات الدراسة، ويُعبّر عن الإشكالية بصيغة سؤال رئيس محدد يسعى الباحث للإجابة عليه، ويمكن أن يتفرع عنه عدد من الأسئلة، بعد ذلك يوضح المنهج المتبع والذي يراعي طبيعة الموضوع والحقل الذي يبحث فيه، والأدوات التي يشتغل بها الباحث لتحليل الظاهرة المدروسة ومقاربة أبعادها، فتكامل التخصصات في الدراسات البينية لا يتحقق إلا بتكامل المناهج والأدوات التي تعمل فيها، فالتركيب في محل البحث يقتضي منهجيًّا التركيب في أدواته وخلفياته، وتمايز هذه التخصصات من حيث الموضوعات لا يمنع تكاملها على مستوى المناهج متى ما وُظّفت أدوات التحليل بصورة تكاملية، فتطور المعرفة مرهونٌ بقدرة الباحث على إعمال مجموعة من المناهج لتحصيل المعرفة أو تفكيكها وتحليلها، فيقترح منهجية تتناسب مع محل الدراسة؛ كأن يوظف المنهج التكاملي لدمج أدوات ونظريات من تخصصات متعددة لفهم الظاهرة الوقفية في أبعادها المركبة، أو يعتمد منهج دراسة الحالة لتحليل نماذج وقفية محددة بعمق، بهدف فهم سياقاتها وتحليل سماتها، واستخلاص العوامل المؤثرة في نجاحها أو تعثرها، أو المنهج المقارن لرصد اختلاف التجارب الوقفية عبر الأزمنة والبيئات والسياقات المختلفة، وتحديد أوجه التشابه والاختلاف، بما يسهم في تعميق التحليل وتوسيع الرؤية وشمولها، وهكذا، وغالبًا ما تحتاج البحوث البينية إلى الدمج بين المناهج النوعية (الكيفية) والكمية، بما يضمن الإحاطة بجوانب الظاهرة المختلفة، وبعد تحديد المنهج/ المناهج المناسبة يستكمل الباحث عناصر صياغة الفكرة البحثية من حدود الدراسة (الزمانية والمكانية والموضوعية)، وتحرير مصطلحاتها الرئيسة، إلى غير ذلك مما لا يخفى من خطوات البحث العلمي.
الحقول المعرفية المتقاطعة مع الوقف: فرص التداخل البحثي:
نظرًا لطبيعة الوقف بوصفه منظومة شاملة ذات امتدادات فقهية، واقتصادية، واجتماعية، وتاريخية، وتقنية؛ فإنَّ دراسته لا تكتمل إلا عبر مقاربة بينية تستثمر مفاهيم وأدوات من تخصصات متعددة، حيث يفتح هذا التداخل الباب أمام نماذج بحثية بينية أكثر تكاملًا، تُفضي إلى فهم أعمق، وتشخيص أدق، ومعالجة أكثر ملاءمة لتحديات الواقع الوقفي وتطلعاته المستقبلية، وفيما يلي أمثلة ونماذج من الحقول المعرفية التي يمكن توظيفها لتحقيق تكامل بحثي مثمر، يسهم في تجديد النظر الوقفي وتوسيع مجالاته التطبيقية:
- العلوم الاجتماعية: لفهم التفاعلات والسياقات المجتمعية المتأثرة أو المؤثرة في الوقف، من خلال مناهج علم الاجتماع والأنثروبولوجيا؛ مما يساعد في فهم وتحليل سلوك الواقفين والنظار والمستفيدين، وتقييم الأثر الاجتماعي للمبادرات الوقفية.
- علوم الإدارة والاقتصاد: لتطوير نماذج إدارة رشيدة للأصول الوقفية، وتحسين آليات الاستثمار والتمويل، وقياس الكفاءة الاقتصادية للمشاريع الوقفية، من خلال الاستفادة من نظريات رأس المال الاجتماعي، والاستثمار التنموي، واقتصاديات القطاع الثالث.
- علم القانون: لتنظيم العلاقة بين الوقف والمجتمع والدولة، من خلال تأصيل الأطر التشريعية الضامنة لحماية الأوقاف واستدامتها، وتحليل مدى اتساقها مع المقاصد الشرعية، وذلك بتوظيف عدد من المنهجيات والأدوات؛ كالتحليل القانوني المقارن، واستكشاف الفجوات النظامية من خلال مقارنتها بالأنظمة الأخرى، إضافة إلى دراسة الصياغات القانونية الحديثة في ضوء التكييفات الفقهية، بما يفضي إلى اقتراح إصلاحات تشريعية توازن بين المتطلبات النظامية والمقاصد الوقفية، وتدعم الشفافية والمساءلة، وتُوفر بيئة تنظيمية محفزة لنمو الوقف وتوسعه.
- العلوم التقنية والهندسية: لاستكشاف وتطوير حلول تقنية في إدارة وتشغيل الأوقاف، وتطوير مشاريع وقفية مبتكرة في مجالات متنوعة، من خلال الاستفادة من مناهج التصميم الهندسي والتقني، والحلول الذكية، والتحول الرقمي، وأنظمة الطاقة المتجددة.
- علم البيانات والإحصاء: لتحليل البيانات والاتجاهات الوقفية، واختبار الفرضيات، والتنبؤ بالنتائج، واستخلاص الرؤى والاستراتيجيات التي تقيم الأداء، وتدعم اتخاذ القرارات والتوجهات المستنيرة، وتقيس الأثر الاجتماعي؛ باستخدام النمذجة الإحصائية، والذكاء الاصطناعي.
- الدراسات التاريخية والحضارية: توفر فهمًا معمقًا لتحولات الوقف عبر الزمن، وتُسهم في استعادة نماذج ناجحة وإعادة إنتاجها وتوظيفها في السياق المعاصر، من خلال تحليل الوثائق والمخطوطات والنظم الوقفية القديمة.
آثار النموذج البحثي البيني في تطوير الدراسات الوقفية:
تكمن أهمية تفعيل نموذج البحوث البينية وأثرها على تطوير الدراسات والأبحاث في القطاع الوقفي، في تحقيق عدد من الأمور منها:
- تعزيز العمق والشمولية: يُمكّن التكامل المعرفي الباحثين من فهم الظواهر الوقفية من زوايا متعددة، مما يُنتج تحليلات ورؤى أكثر عمقًا وشمولية، ويثري التطبيقات في الحقل الوقفي.
- تحفيز الابتكار: تتجلى قيمة البحوث البينية في كسر الجمود المعرفي، حيث يسهم التفاعل بين التخصصات في توليد مساحات معرفية مشتركة، وابتكار أفكار جديدة وحلول غير تقليدية للتحديات التي تواجه القطاع الوقفي.
- تلبية الاحتياجات المستجدة: يُساعد النموذج البيني في استشراف الاحتياجات المتغيرة للمجتمع، وتوجيه الأوقاف نحو مبادرات ذات أثر مُستدام في مجالات ناشئة.
- تحسين السياسات والممارسات: يُزوّد متخذي القرار في القطاع الوقفي برؤى مُستندة إلى أسس علمية مُتكاملة، مما يُسهم في تطوير سياسات وممارسات أكثر فاعلية.
ملاحظات منهجية ينبغي مراعاتها:
- لا تبدأ من التخصصات، بل من المشكلة:
المشكلة البحثية هي نقطة الانطلاق، ثم تُستدعى بعد ذلك التخصصات اللازمة لفهمها أو حلها؛ فينبغي أن يسأل الباحث ابتداءً: ما الإشكالية التي أواجهها؟، ثم بعد ذلك: ما التخصصات الضرورية لفهمها أو حلها؟، فالبحث البيني الجيد لا يفرض التخصصات على المشكلة، بل يكتشفها من داخلها.
- لا تدمج المعلومات فقط، بل أدمج طرق التفكير:
التكامل لا يعني جمع معلومات مشتتة من تخصصات مختلفة، بل يعني فهم كيف يعالج كل تخصص الإشكالية، ثم توليف هذه المعالجات بعدسة متداخلة لا متوازية، فكل علم له منهجية تفكير، وأسلوب تحليل، ومفاهيم رئيسة لا يحسن تجاوزها أو إغفالها؛ فالفقيه ينظر إلى الحكم والمقصد الشرعي، والمؤرخ يركز على الحدث، وأسبابه وتداعياته، في حين يسأل عالم الاجتماع عن أثر هذه الظاهرة على البنية الاجتماعية، وكيف تتفاعل في السياق الاجتماعي؛ وعليه فإنّ قيمة الدراسات البينية لا تكمن في تنوع الزوايا، بل في وحدة العدسة التحليلية التي تنظر من خلالها إلى هذا التنوع.
- التواصل بين الباحثين من التخصصات المختلفة أساسي:
نجاح البحث البيني يتوقف على قدرة الباحثين على التواصل الفعّال بلغة مشتركة وفهم متبادل لضمان التكامل الحقيقي، فالبحوث البينية تثمر عندما تتضح الحدود والتداخلات المعرفية والمنهجية بين التخصصات، وفي حال تولّى الباحث منفردًا إنجاز الدراسة البينية؛ فإن عليه أن يمتلك قدرة تأهيلية لفهم الأسس المفاهيمية وأدوات التحليل في التخصصات الأخرى، ولو بالحد الأدنى الذي يضمن سلامة التوظيف.
- ضرورة التوازن المنهجي والحذر من هيمنة تخصص واحد:
من أبرز التحديات المنهجية في الدراسات البينية وقوع بعض الباحثين في فخّ “الهيمنة الأحادية”، كأن يُنجز دراسة فقهية خالصة ثم يُلحق بها عنصرًا اجتماعيًا سطحيًا بدعوى التكامل، هذا النهج يُفرغ مفهوم الدراسة البينية من محتواه العلمي، ويجعل من التخصصات الأخرى مجرد واجهة تجميلية لا أثر لها في التحليل أو الاستنتاج، وعليه يجب الحفاظ على التوازن في التناول، دون أن تطغى رؤية تخصص معين على روح التكامل.
- دقة المصطلحات وضبط المفاهيم بين التخصصات:
لتجنب اللبس وسوء الفهم، خاصة عند الجمع بين تخصصات لها اصطلاحات مختلفة، فالاتفاق في الموضوعات والاصطلاحات لا يعني التطابق بينها، حيث قد يُستخدم اللفظ ذاته في أكثر من تخصص لكن بمعانٍ متغايرة، لذا لا بد في الدراسات البينية من تحديد المفاهيم والمصطلحات المركزية منذ البداية، وبيان المقصود منها بدقة وفق السياق المعرفي المعتمد في البحث، حتى لا يقع القارئ أو الباحث في اللبس، أو ينشأ تضارب في المعالجة أو الاستنتاج.
التحديات وآليات التفعيل:
يتطلب تبني النموذج البحثي البيني في الدراسات والأبحاث الوقفية تذليل بعض التحديات، مثل ضرورة بناء فرق بحثية متعددة التخصصات، وتطوير لغة مشتركة للتواصل بين الباحثين من خلفيات معرفية مختلفة، وتشجيع المؤسسات الوقفية على دعم هذا النوع من الأبحاث، ويمكن تفعيل هذا النموذج من خلال أربعة محاور تكاملية:
- إنشاء بيئات تواصل بين الباحثين تُيسّر التفاعل العلمي المستمر بين الباحثين المهتمين بالقطاع الوقفي من مختلف الحقول المعرفية؛ (كالفقه، والاقتصاد، والاجتماع، والقانون، والإدارة، والتقنية)، وذلك عبر قواعد بيانات موحدة للمشروعات والأدبيات الوقفية، وإقامة لقاءات علمية دورية (ندوات، ورش عمل، منتديات بحثية)، وتنسيق فضاءات تعاون افتراضية؛ لتبادل الخبرات ومناقشة الأفكار البحثية.
- إطلاق مبادرات بحثية مشتركة عابر للتخصصات من خلال مراكز بحثية أو فرق مشاريع تركز على قضايا وقفية ذات أولوية وطابع مركب وتتطلب مقاربات بينية؛ (كاستدامة الأوقاف، أو نماذج حوكمتها، أو الأثر الاجتماعي لها)، وتُعهد إلى فرق متعددة التخصصات تتوزع فيها الأدوار بناءً على التخصص والمنهج.
- تطوير كفايات الباحثين في قطاع الأوقاف وتأهيلهم في مجال البحوث البينية، لاكتساب الكفايات المعرفية واللغوية اللازمة للتعامل مع الحقول المجاورة، وتعزيز مهاراتهم في العمل ضمن فرق متعددة التخصصات، وتدريبهم على أدوات التعاون البحثي والتكامل المنهجي، وتعريفهم بأهم إشكالات البحوث البينية؛ كالمفاهيم، والتحيز، والتركيب، وأساليب معالجتها وتجاوزها.
- تهيئة بيئة نشر علمية حاضنة للأعمال البينية، تتبنى سياسات تحفيزية لتشجيع الباحثين على التأليف والنشر في مختلف المنصات العلمية، وتوفر لجان تحكيم علمي متعددة التخصصات، مع تقديم أشكال الدعم المادي والمعنوي اللازم لهم، إضافة إلى دعم المشروعات البحثية ذات الأثر الاستراتيجي.
خاتمة:
يمثل تبنّي النماذج البحثية البينية في الدراسات الوقفية تحوّلًا استراتيجيًا يعزز من كفاءة القطاع الوقفي في الاستجابة للتحديات المعاصرة، ويُمكّنه من تحقيق أهدافه التنموية في بيئة تتسم بالتعقيد والتغير المتسارع، حيث يسهم في تعميق الرؤية، واستشراف التحولات المجتمعية، وترشيد السياسات الوقفية، كما يُعيد قراءة النماذج التاريخية في ضوء معطيات العصر، ويفتح آفاقًا معرفية جديدة تربط الوقف بمختلف الحقول العلمية، ومن ثمَّ، فإنَّ هذا التوجه لا يُعدّ ترفًا فكريًّا عارضًا أو مجرد خيار بحثي تكميلي، بل ضرورة منهجية لتفعيل الوقف وتطوير أدواته ومنهجياته في عالم متغير، واستعادة دوره الحضاري كأداة فاعلة في البناء والتنمية.
(1) للاستزادة انظر: موقع التخصُّصات الدنيوية من خارطة علوم الوحي نحو مقاربة في البناء المنهجي، محمد بن حسين الأنصاري، مركز نهوض للدراسات والبحوث.
(2) لا يُقصَد من هذا التوجّه البحثي التقليل من شأن التخصصات أو الاستغناء عنها؛ بل السعي إلى استثمار تكاملها وتداخلها لتحقيق فهم أعمق، دون الإخلال بالأصالة التخصصية أو منهجية كل حقل معرفي، فالدعوة إلى الدراسات البينية ليست بديلًا عن التخصص، بل تجديدًا في أدواته، وتوسيعًا لأفقه، وتأكيدًا على أن التكامل المعرفي لا يتم إلا على قاعدة تخصصية راسخة.
(3) هناك محاولة من مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية- جامعة قطر؛ لبناء نموذج معياري للمقررات البينية في التعليم الجامعي، بهدف ضبط الإطار المفاهيمي والمعياري لهذا النمط من التعليم.
(4) للاستزادة حول هذا الموضوع انظر: التكامل المعرفي بين العلوم، د. الحسان شهيد، روافد- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ط1/2013م. تداخل المعارف ونهاية التخصص في الفكر الإسلامي العربي: دراسة في العلاقات بين العلوم، د. محمد همام، مركز نماء للبحوث والدراسات- لبنان، ط1/2017م. سؤال التداخل المعرفي العلوم الاسلامية بين الاتصال ولانفصال، محمد بن حسين الأنصاري، دار تكوين للدراسات والأبحاث- ط1/2019م.
(5) نقصد بالظاهرة الاجتماعية: أي أنه ليس ممارسة فردية عابرة بل سلوك جماعي متكرر، يظهر في مختلف طبقات المجتمع عبر الزمان بصور متنوعة، ويؤثر فيه ويتأثر به، ويعبر عن قيمه ومعتقداته وتنظيمه.